السُّنـَّـــــة
لغة: الطريقة، وسُنَّةُ الله: حُكُمُة فى خليقته (1). وأهم إطلاقاتها هو السيرة الحسنة أو القبيحة (2). وفى الحديث النبوى الكريم الذى رواه مسلم: "من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجرمن عمل بها من بعده، من غيرأن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزرمن عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (3). واصطلاحاً: يراد بها عمل رسول الله r وطريقته، فقد روى البخارى فى صحيحه حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه فى قصته مع الحجاج حين قال له: إن كنت تريد السنة فهَجَّرْ بالصلاة". قال ابن شهاب: فقلت لسالم: أفعله رسول الله r قال: وهل يعنون بذلك إلا سنته ويعلق السيوطى على هذا بقوله: فنقل سالم- وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة وأحد الحفاظ من التابعين- عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون بذلك إلا سنة النبى r (4).وقد أطلقها عمر t وذكرها ابن عباس، وعمرو بن العاص، وعائشة- رضوان الله عليهم- وأرادوا بها سنة رسول الله r(5). ولهذا قال الشافعى، رحمه الله:"مطلق السنة يتناول سنة رسول الله r فقط"(6) .
وينقل السرخسى أن السلف كانوا يطلقون اسم السنة على طريقة أبى بكروعمر- رضوان الله عليهما- وكانوا يأخذون البيعة على سنة العمرين، وبيَّن أن أصل هذا الإطلاق قوله: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى، عضُّوا عليها بالنواجذ"(7).
ولهذه الإطلاقات اختلف العلماء فى قولهم: "من السنة كذا" فقد يُحمل هذا القول على سنة الرسول r، وقد يكون مقصودا به من بعده من السلف الصالح- رضوان الله عليهم- وخاصة الصحابة(.
وقد تُطلق السنة ويراد بها عمل الصحابة - رضوان الله عليهم- أو التابعين، سواء كان ذلك مأخوذا من الكتاب أو من سنة رسول الله r ا، أو من اجتهادهم، وقد ساغ هذا لأن عملهم اتِّباع لسنة ثبتت عندهم لم تتقل إلينا، أو اجتهاد مُجتمَع عليه منهم أو من الخلفاء (9).
وهذه الإطلاقات إنما ترجع فى حقيقتها إلى المعنى الأول، وهو ما جاء عن رسول الله r أوما يتعلق به، لأن ما يعمله الصحابة هو ما تعلموه من رسول الله r- أو اجتهاد منهم على ما تعلموه منه-r. وهناك خطأ من بعض المستشرقين أمثال يوسف شاخت، وهو أنه اعتبر هذه الإطلاقات معناها التسوية بين ما هو عن رسول الله r وما هو عن الصحابة (10).
وهذا غير صحيح فقد اعتبر أن المصدر الأول للتشريع هو القرآن الكريم، والمصدر الثانى هو السنة بمعنى ما جاء عن رسول الله r ولا يلجأون إلى غيرهما إلا عندما لا يجدون فيهما ما يستمدون منه الحكم.
يقول الإمام الشافعى: "والعلم طبقات شتى ، الأولى: الكتاب والسنة- إذا ثبتت السنة - ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبى r قولا ولا نعلم له مخالفا منهم، والرابعة: اختلاف أصحاب النبى rفى ذلك، الخامسة: القياس على بعض الطبقات، ولا يُصار إلى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى" (11). وتطلق السنة على النوافل من العبادات غيرالفروض، مما نُقل عن النبى r سواء كانت مؤكدة يُكره تركها أو غير ذلك (12).
والسنة عند الشيعة لها إطلاق يختلف إلى حدَّ كبيرعن كل هذا لأنها عندهم قول النبى r أوفعله أوتقريره، وقول كل واحد من المعصومين أوفعله أوتقريره، أوبعبارة أخرى
قول المعصوم أو فعله أو تقريره. وذلك لأن المعصوم من آل البيت يجرى قوله مجرى قول النبى من كونه حجة على العباد واجب الاتباع(13).
وبعد أن استقرت المصطلحات فى مؤلفات أصول الحديث والفقه وجدنا للسنة مفهومات محددة تسير عليها هذه المؤلفات، ويسير عليها العلماء المتأخرون فى هذه العلوم الثلاثة:
فالسنة عند علماء الحديث هي كل ما أثير عن النبى r من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، سواء أدل ذلك على حكم شرعىَّ أم لا.والسنة عند علماء أصول الفقه هى كل ما صدر عن النبى r من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يكون دليلا لحكم شرعى. والسنة عند علماء الفقه هى كل ما ثبت عن النبى r ولم يكن من باب الفرض،فهى الطريقة المتبعة فى الدين من غير افتراض.ويميز بين هذه الإطلاقات السياق الذى توجد فيه، على أنه ينبغى أن ننبه الى أن هذه الإطلاقات شيء، واستمداد الأحكام شيء آخر، فهذا الاستمداد إنما يعتمد على السنة بمعنى ماجاء عن رسول الله r.
أ. د/ رفعت فوزى عبد المطلب
المراجع
1- المعجم الوسيط ص473
2- انظر هذه الإطلاقات فى لسان العرب، مادة (سنن).
3- صحيح مسلم رقم 6/1017 فى قصة- فى كتاب الزكاة، وفى كتاب العلم. (طبعة عيسى الحلبى، وترقيم محمد فؤاد عبدالباقي).
4- تدريب الراوى 1/188-189 (جلال الدين السيوطى- ط (1) دار الكتب الحديثة- القاهرة 1385 هـ/ 1966 م).
5-اختلاف الحديث للشافعى 7/25 (طبعة دار الشعب، على هامش الأم- - 1388 هـ/ 1968 م).
6- أصول السرخسى ص 13 1- 4 1 1 وأصول البزدوى 2/ 628- 629
7- المصدران السابقان 1/ 4 1 1 و2/ 0 63
8- أصول البزدوى: 2/628 (على هامش شرحه كشف الأسرار- مكتب الصنايع 7 0 13 هـ).
9- ابن حنبل حياته وعصره، ص 251 محمد أبو زهرة- دار الفكر العربى- القاهرة.
10- Origins of Muhammedan نقلا عن موقف الإمام الشافعى من مدرسة العراق ص130
(محيى الدين البلتاجى- المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- لقاهرة).
11- الأم للإمام الشافعى 7/246 طبعة دار الشعب بالقاهرة، وهى مصورة عن الطبعة البولاقية.
12- الاتجاهات الفقهية. ص4 1 د/ عبدالمجيد محمود- ط (1 ) مكتبة الخانجى 1399 هـ/ 1979 م.
13- أصول الفقه: محمد رضا المظفر 3/61 ط (2) دار النعمان بالنجف 1 139 هـ/ 971 1 م
إن السنة النبوية هى البيان النبوى للبلاغ القرآنى ، وهى التطبيق العملى للآيات القرآنية ، التى أشارت إلى فرائض وعبادات وتكاليف وشعائر ومناسك ومعاملات الإسلام.. وهذا التطبيق العملى ، الذى حوّل القرآن إلى حياة معيشية ، ودولة وأمة ومجتمع ونظام وحضارة ، أى الذى " أقام الدين " ، قد بدأ بتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم للبلاغ القرآنى ، ليس تطوعًا ولا تزيّدًا من الرسول ، وإنما كان قيامًا بفريضة إلهية نص عليها القرآن الكريم (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (1). فالتطبيقات النبوية للقرآن ـ التى هى السنة العملية والبيان القولى الشارح والمفسر والمفصّل ـ هى ضرورة قرآنية ، وليست تزيّدًا على القرآن الكريم.. هى مقتضيات قرآنية ، اقتضاها القرآن.. ويستحيل أن نستغنى عنها بالقرآن.. وتأسيًا بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وقيامًا بفريضة طاعته ـ التى نص عليها القرآن الكريم: (قل أطيعوا الله والرسول ) (2) (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) (3) (من يطع الرسول فقد أطاع الله ) (4) (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ) (5) (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) (6). تأسيًا بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وطاعة له ، كان تطبيق الأمة ـ فى جيل الصحابة ومن بعده ـ لهذه العبادات والمعاملات.. فالسنة النبوية ، التى بدأ تدوينها فى العهد النبوى ، والتى اكتمل تدوينها وتمحيصها فى عصر التابعين وتابعيهم ، ليست إلا التدوين للتطبيقات التى جسدت البلاغ القرآنى دينًا ودنيا فى العبادات والمعاملات.
فالقرآن الكريم هو الذى تَطَلَّبَ السنة النبوية ، وليست هى بالأمر الزائد الذى يغنى عنه ويستغنى دونه القرآن الكريم.
أما العلاقة الطبيعية بين البلاغ الإلهى ـ القرآن ـ وبين التطبيق النبوى لهذا البلاغ الإلهى ـ السنة النبوية ـ فهى أشبه ما تكون بالعلاقة بين " الدستور " وبين " القانون ". فالدستور هو مصدر ومرجع القانون.. والقانون هو تفصيل وتطبيق الدستور ، ولا حُجة ولا دستورية لقانون يخالف أو يناقض الدستور.. ولا غناء ولا اكتفاء بالدستور عن القانون.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس مجرد مبلّغ فقط ، وإنما هو مبلّغ ، ومبين للبلاغ ، ومطبق له ، ومقيم للدين ، تحوّل القرآن على يديه إلى حياة عملية ـ أى إلى سنة وطريقة يحياها المسلمون.
وإذا كان بيان القرآن وتفسيره وتفصيله هو فريضة إسلامية دائمة وقائمة على الأمة إلى يوم الدين.. فإن هذه الفريضة قد أقامها ـ أول من أقامها ـ حامل البلاغ ، ومنجز البيان ، ومقيم الإسلام ـ عليه الصلاة والسلام.
والذين يتصورون أن الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد مبلِّغ إنما يضعونه فى صورة أدنى من صورتهم هم ، عندما ينكرون عليه البيان النبوى للبلاغ القرآنى ، بينما يمارسون هم القيام بهذا البيان والتفسير والتطبيق للقرآن الكريم !.. وهذا " مذهب " يستعيذ المؤمن بالله منه ومن أهله ومن الشيطان الرجيم !.
المراجع
(1) النحل: 44.
(2) آل عمران: 32.
(3) النساء: 59.
(4) النساء: 80.
(5) آل عمران: 31.
(6) الفتح: 10.